قانون تأميم الفتوى .. العدوان على الحريات الدينية للمسلمين د. عاصم الفولى - DR Assem Elfouly Assem Elfouly

قانون تأميم الفتوى .. العدوان على الحريات الدينية للمسلمين

منذ 2 اسابيع | 2222 مشاهدات

يمثل هذا القانون إنتهاكا خطيرا للحريات الدينية للمسلمين في مصر، فلا الدستور يعطي للبرلمان حق التدخل في الشئون الدينية، ولا الشريعة تعطي لولاة الأمور الحق في تنصيب من يحتكر الفتوى، ناهيك عن الحق في معاقبة من يجرؤ على الفتوى من غير هؤلاء الذين عينهم السلطان.

يعرف هذا القانون الفتوى الشرعية بأنها "إبداء الحكم الشرعي في فتوى شرعية عامة أو خاصة" .. يعني أي كلام في الحلال والحرام والفرض والواجب والسنة والمكروه .. إلخ في أي موضوع سيخضع لبنوده، ويحصر القانون حق هذا الكلام في لجان تعينها الحكومة في الأزهر أو الأوقاف، وكل هذه اللجان لا تملك حق الإجتهاد، فالمادة (5) تنص على أنه "في حالة تعارض الفتاوى الشرعية يرجح رأي هيئة كبار العلماء في الأزهر الشريف"، منهية بذلك ما إستقر عند المسلمين منذ أول يوم عن حق كل من إمتلك آلة الإجتهاد أن يجتهد ويفتي الناس ولو خالف رأيه رأي أمير المؤمنين .. لم يعد مسموحا للمسلمين (في مصر وحدها) أن يعرفوا أن في المسألة رأيا آخر.

وتنص المادة (7) على أن تلتزم المؤسسات والوسائل الصحفية والإلكترونية ومواقع التواصل الإجتماعي .. إلخ (في الواقع كل وسائط نقل المعلومات) عند نشر أي فتوى أن تكون صادرة من الجهة المختصة وفقا للقانون .. ويعاقب من يخالف ذلك بالحبس والغرامة، ويعاقب بذلك أيضا الشخص المسئول عن وسيلة النشر .. يعني لو شاركت فتوى إتحاد علماء المسلمين بشأن غزة على صفحتك في فيسبوك ستعاقب بالحبس والغرامة.

ينبغي أولا أن نوضح الفرق بين الإفتاء والقضاء، فالقضاء هو جزء من سلطات الدولة، وظيفته إقامة العدالة وحل النزاعات وعقاب المجرمين، والقاضي يصدر حكما ملزما تستخدم الشرطة وسائل الإكراه لتنفيذه، لذلك أجاز الفقه لولي الأمر، عندما تختلف المذاهب الفهية في حكم قضية ما، أن يتدخل بإختيار الرأي الذي تجري عليه أحكام القضاء حتى لا يختلف الحكم في نفس القضية من قاض لآخر، فكان من المقبول أن تعد السلطات مدونة قانونية تحدد الحقوق والواجبات التي ستلزم الناس بها لحسم المنازعات، وتوصف الجرائم وتحدد العقوبات التي ستوقع على المجرمين، والسلطة هنا تختار القوانين من بين الآراء الفقهية دون حجر أو تقييد لحق العلماء في نشر إجتهاداتهم المخالفة، كما نلاحظ في قوانين الأحوال الشخصية التي هي إختيارات من المذاهب (وأحيانا من خارج المذاهب) بينما نظل نقرأ كتب الفقه على المذاهب الأربعة، ويحتكم بعضنا أحيانا لفتوى غير التي نص عليها القانون إذا تراضى الطرفان.

لم يترك الإسلام كبيرة ولا صغيرة من أمور الحياة إلا وله فيها حكم بالحل أو الحرمة أو الإباحة أو الإستحباب أو الكراهة، لذلك يحتاج المسلم العامي (الذي لم يصل لدرجة الإجتهاد في إستنباط الأحكام من النصوص) لمن يفتيه في عبادته وعلاقاته الشخصية وكل ما لا علاقة له بالدولة، والقاعدة في كل المذاهب أن المسلم هو الذي يختار العالم الذي يطمئن إلى علمه وورعه ليستفتيه، وإذا داخله أي شك بشأنه فله أن يسأل غيره ويعمل بما يرتاح إليه، وليس لأحد أن يفرض على أحد مفتيا أو مذهبا (كان هذا هو المعمول به بين المسلمين إلى أن أصدر الرلمان المصري قانونه الغريب).

لو أن القانون إقتصر على الإفتاء في الشأن العام لفهمناهم، لم نكن لنقبل منهم لكننا سنفهم دوافعهم، لكن القانون يسري على الفتاوى العامة والخاصة، أي أن مسائل مثل نواقض الوضوء وسجود التلاوة ومستحبات الإحرام وحكم النقاب .. إلخ سيقتصر الرد عليها على من تعينهم الحكومة وبالرأي الذي تتباه هيئة كبار العلماء .. هذه سلطة لم تكن لأبي بكر وعمر.

تنص المادة الثالثة من دستور عام 2014 على أن: "مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود المصدر الرئيسي للتشريعات المنظمة لأحوالهم الشخصية وشئونهم الدينية واختيار قياداتهم الروحية" .. ولا يمكن أن يكون هذا البند قد وضع ليتميز به اليهود والمسيحيين على المسلمين، فيكون لهم الحق في أن يتدينوا بالطريقة التي يفهمون بها شرائعهم وأن يختاروا لأنفسهم من يقرر لهم كيف تفهم هذه الشرائع بينما يحرم المسلمون من هذا الحق، فما هي مبادئ الشريعة الإسلامية في ما يتعلق بإختيار القيادات الدينية؟ وهل فيها ما يعطي للبرلمان أو أي من ولاة الأمر (أطراف سلطة الدولة) الحق في أن يتدخل ليقرر للمسلمين تعاليم دينهم؟

عندما كانت الدولة إسلامية، تلتزم سلطاتها بأحكام الشريعة في كل شئونها ويرأسها خليفة مهمته حراسة الدين وسياسة الدنيا، لم يكن لأمير المؤمنين أن يقصر الإفتاء على علماء فرقة أو مذهب، كان مجتمع العلماء المستقلين عن السلطة هو الذي يقرر من من طلاب العلم وصل لمستوى الإفتاء، وإذا إجترأ أحدهم على الفتوى قبل أن يجيزه العلماء فقد كانوا هم وحدهم الذين يتصدون لكشفه وتحذير الناس من إتباعه، ولا شأن لأجهزة السلطة بذلك.

ولما أعجب هارون الرشيد بموطأ مالك وأبدى رغبته في تعميمه لتسير أحكام القضاة وفتاوى المفتين عليه نهاه الإمام مالك (رض)، وقال أن أصحاب رسول الله (ص) تفرقوا في البلدان يتعلم منهم الناس، ولكل منهم مدرسته الفقهية، وطلب من الخليفة أن يترك الناس ليتبعوا من يرضون من علمائهم، أما المأمون بن هارون الرشيد، رغم كل إنجازاته الجليلة في خدمة الإسلام وأمته، فنحن لا نذكره إلا عندما ندينه بأنه الخليفة الذي أراد إرغام الناس على رأي معين في قضية خلق القرآن .. لن تجد في تاريخنا سابقة لهذه الفكرة الغريبة، أن يقوم السياسيون بتعيين من يحتكر الإفتاء ويعاقبون غيره إذا رد على أسئلة الناس.

وعندما أنشأت الدولة في العصر الحديث جهازا أسمته دار الإفتاء ووضعت على رأسه عالما بإسم "مفتي الديار" لم تكن مهمته أن يحتكر الفتوى، بل إقتصر على إبداء الرأي الشرعي في أعمال أجهزة الدولة وقراراتها لضمان إلتزام الموظفين والقضاة بعدم الخروج على أحكام الشريعة، وظل لكل عالم أن يفتي من يستفتيه وأن يجتهد وينشر ما يصل إليه,

 هذا موقف الشريعة، ليس للدولة أو أي من سلطاتها أن تتدخل في حرية العلماء في الإجتهاد وإصدار الفتاوى أو في حق الناس في إتباع من يرضونه ويرتاحون إليه، كل مسلم يختار لنفسه ولا تثريب عليه، وإذا وجد داخل مجتمع المسلمين مذاهب وفرق مختلفة (وقد وجد دائما) فليس لفرقة منهم أن تفرض مذهبها على الجميع .. هذه من الخصائص العبقرية التي إنفرد بها الإسلام عندما كانت القاعدة في العالم كله أن الناس على دين ملوكهم.

هذا القانون العجيب يحرم المصري الذي يريد أن يصلي وفق مذهبه من أن يعرف أحكام هذا المذهب إذا تبنى الأزهر مذهبا غيره، فلن يجد عالما يفتيه في أحكام الصلاة إلا على مذهب هيئة كبار العلماء، وسيعاقبني بالحبس والغرامة وأنا أتكلم في الإقتصاد الإسلامي إذا ذكرت فتاوى المجامع الإسلامية العديدة التي قررت أن فوائد البنوك هي عين الربا المحرم .. وماذا عن مدونات الفقه على المذاهب الأربعة؟ هل سيطالبون ناشريها بتجاهل تعدد الآراء لحساب رأي الأزهر؟

            حسب القانون يقتصر الإفتاء على من تعينه الحكومة المصرية، فهل أصبح أصبح الإسلام دينا مصريا يرفض الإعتراف بإجتهادات فطاحل العلماء الذين تخرجوا من مدارس فقهية عريقة في مشارق بلاد الإسلام ومغاربها فيعاقب المصري الذي يحاول نشرها على صفحته بينما يسمح للكاثوليكي أن يروج ويلتزم بأحكام بابا الفاتيكان؟ وماذا عن السلفيين الذين يعتقدون أن فقه علماء السعودية أقرب للكتاب والسنة من فقه الأزاهرة؟ أليس هذا حقهم حتى لو كنا لا نوافقهم؟ هل يعاقب السلفي بالحبس والغرامة إذا إستند في ما يقول أو يكتب إلى فتاوى بن باز والعثيمين؟ وهل يجب على الشيخ السلفي ألا يذكر في دروسه لطلابه الذين هم سلفيون أيضا إلا الحكم الذي أعلنته هيئة كبار العلماء؟ بل إن عضو الهيئة نفسه لا يحق له أن يذكر رأيه إن كان من الأقلية التي لم توافق على رأي الأغلبية وإلا عوقب بالحبس والغرامة (ناهيك عن من يستند في دعمه لغزة إلى فتوى الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين).. إذا لم يكن هذا عدوانا على الحريات الدينية للمسلمين في مصر فماذا يكون .. ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

شارك المقال