5- الإمامة الإلهية والوصية النبوية د. عاصم الفولى - DR Assem Elfouly Assem Elfouly

5- الإمامة الإلهية والوصية النبوية

منذ 1 اسابيع | 1601 مشاهدات

لعل القارئ يذكر أن هدفنا لم يكن الدخول في جدل مع شيعة إيران لإثبات عوار مذهبهم، فمن العلماء من يقوم بذلك منذ القرن الثاني، لكننا نرجو أن يقودنا فهم المذهب إلى وسيلة للتعايش والتحالف في مواجهة خصوم الإسلام، ولعل أهم مصادر التعقيد هو إيمان الشيعة بوجود نصوص أوصى فيها رسول الله (ص) بالإمامة لعلي بن أبي طالب ولنسله من بعده، أي أنه في كل عصر يوجد رجل محدد يجب طاعته، من عصاه فقد عصى الله ورسوله، وزادوا فإعتبروا الإمامة ركنا من أركان الدين، فأصبح إنكار الإمام خروجا من الدين، هذه في تقديري هي عقدة العقد، وكل ما عداها يمكن تخطيه بإذن الله (هذا إذا صدقنا، ونحن نصدق، ما كتبه العديد من علمائنا الأفاضل الذين شاركوا في حوارات التقريب بين المذاهب).

لم يكن الأئمة الثلاثة الأول في حاجة لأي خصوصية دينية لتبرير إستحقاقهم الإمامة، فقد كانت صفاتهم ومواهبهم تؤهلهم لها، لذلك لن تجد في جدال علي (رض) مع خصومه (قادة موقعة الجمل ثم معسكر معاوية إنتهاء بالخوارج) أي إستناد لنص أو وصية، حتى في المصادر الشيعية، بل تأكيدا على أن مصدر شرعيته هو بيعة أهل المدينة، أما الحسن (رض) فقد خرج عبد الله بن عباس إلى قيادات الشيعة، بعد إستشهاد علي، يسألهم إن كانوا يرغبون في بيعة الحسن فيخرج إليهم أم يريدون أن يتركهم ليتشاوروا في من يرضونه .. لا نص ولا وصية .. وبعد تنازل الحسن لمعاوية على شرط ألا يعهد لأحد من بعده ويتركها شورى بين المسلمين (وهذا في حد نفي لوجود وصية) ظل الحسين (رض) ملتزما ببيعتة لمعاوية، ولم يخرج على يزيد إلا بعد أن إستدعاه أهل الكوفة ليقودهم في مقاومة طغيان بني أمية، ولم يرد أن الحسين خرج مطالبا بحقه حسب وصية الرسول (ص).

لم تلتف الجماهير المقهورة حول قيادات البيت النبوي بسبب أي أوامر دينية، الواقع هو أن إسقاط حكم بني أمية، الذين تمتعوا بالجاه والسيادة منذ العهد الجاهلي، كان يحتاج لقيادة تنتمي لبيت يضارع في شرفه البيت الأموي أو يتفوق عليه، كانت هذه طبيعة العصر، لذلك نجد فرقة من أنشط الفرق في العمل السياسي، المعتزلة، تخرج مع ثوار من آل الحسين (زيد بن علي)، ثم مع ثوار من آل الحسن (محمد النفس الزكية)، وبين الثورتين تقوم بثورة ناجحة بقيادة معتزلي من البيت الأموي (لم تدم خلافته إلا ستة أشهر)، لم يكن الخروج مع أي من هؤلاء القادة لخصوصية وضعه الديني وإنما لمواصفاته السياسية وشعبيته بين الجماهير.

الواضح أن مجموعة من أنصار الحسين (رض) رغبت في أن تستمر قيادة الشيعة في نسله، ربما دفعتهم مشاعر الندم بعد خذلانهم لشهيد كربلاء، أو لعلها الرغبة في إستمرار وضعهم القيادي الذي تأثر بتولي محمد بن الحنفية للقيادة، فقرروا أن الإمام الحق هو علي زين العابدين بن الحسين، رغم أنه عزف عن العمل السياسي وأراد أن تكون إمامته علمية وروحية فقط، وفي سبيل ذلك طوروا نظرية تبرر إعتبار زين العابدين هو الإمام بغض النظر عن موقفه السياسي، قامت أولا على فكرة الوراثة العمودية للإمامة في نسل الحسين، أي أن الإبن يرث أبيه ويورثها لإبنه الأكبر فالأكبر إلى يوم القيامة، هكذا وردت في المصادر الشيعية من القرن الثاني الهجري، فلم تكن فكرة الإثنى عشرية قد ظهرت، إذ لم يكن الثاني عشر قد إختفى بعد، وهكذا ظنوا أتهم يصرفون أنصار آل الحسين عن الإنضمام إلى آل إبن الحنفية أو آل الحسن الذين كانوا يقودون فعلا حركات المعارضة .. لكن ماذا عن وراثة الحسين لأخيه الحسن؟ قالوا أن هذا كان إستثناء لمرة واحدة لن تتكرر .. لماذا؟ قالوا لأنها إرادة الله الذي لا يسأل عما يفعل.

لم يكن لنظرية الوراثة وحدها أن تكفي لتبرير إمامة الأجيال المتتابعة بعد أن رفض علي زين العابدين بن الحسين ثم إبنه محمد الباقر ثم حفيده جعفر الصادق حيازة أي سلطة، فما الذي سيرثه الإبن إذن؟ أضف إلى ذلك أن زيد بن علي، أخو محمد الباقر، أعلن أن الإمام ليس من يقعد في داره ويرخي عليه ستره، لكنه من يخرج بسيفه يقاوم الظلم ويقيم العدل، لذلك أضيفت في زمن جعفر الصادق، الإمام السادس، فكرتا الإمامة الإلهية والوصية النبوية.

خلاصة النظرية أن وظيفة الإمام هي أن يكون المرجع المؤتمن في جميع شئون الدين والدنيا، ولذلك يجب أن يكون الأعلم في كل ذلك، وإلا ضاع الدين وضاعت الدنيا، لكن كيف يستطيع الأقل علما أن يتبين من هو الأعلم؟ فكان من اللطف الإلهي أن يقوم الله جل وعلا بتعيين الإمام، فإختيار الإمام ليس شأنا بشريا يعهد به إلى الناس، بل هو إصطفاء إلهي تقاس أحكامه على النبوة لا على التعيين في الإمارة ومناصب الحكومة .. بدا هذا حلا معقولا بعد تراجع الدور القيادي لأحفاد الحسين، فالإمامة أمر إلهي، ليس للناس أن تختار إمامها، فالله قد عينه وقضي الأمر، وقد حدد النبي (ص) الإمام من بعده، وكل إمام يلهم بإسم خليفته فيعلنه للناس قبل وفاته .. هكذا كانت الإمامية في نهاية القرن الثاني.

تجتهد المصادر الشيعية من القرنين الثاني والثالث الهجري في رواية قصص عن وصايا الأئمة لمن يخلفهم، وكلها روايات ضعيفة أو غير مفيدة (نصوص لأب يوصي إبنه عندما تحضره الوفاة فيما يتعلق بالديون والأوقاف والرقيق وغيرها كما يوصي كل الناس)، فلما جاء القرن الرابع ظهر الحديث النبوي الذي ينص على قائمة بأسماء الأئمة الإثنى عشر وترتيبهم، والعجيب أن الكليني عندما ذكر هذا الحديث في "الكافي" في مطع القرن 4ه أورد له 17 رواية، ثم جاء الصدوق بعد نصف قرن ليجعلها 35 في كتابه "إكمال الدين"، ثم زادها الخزاز في نهاية القرن إلى 200 رواية .. أما الشيعة المعاصرون، الذين لا يقرأون تاريخهم، فيظنونه حديثا في أعلى درجات الصحة، ويرون أن الوصية لعلي ونسله ثابتة بالحجج القطعية، وليس لديهم شك في أن الصحابة الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان (رض) قد خانوا الله ورسوله، أما معاوية الذي قاتل عليا فيستحق لعنة الله .. وهذا ما لا يحتمله السنة، والأسوأ من ذلك هو أننا نحن الذين ننكر الإمامة الإلهية من أصله قد لا نستحق أن نعد من المسلمين.

كان الزيدية والمعتزلة هم أقوى من تصدوا لإدعاء الوصية وفندوا الأحاديث التي أوردها الإثنى عشرية وإتهموهم بالكذب على رسول الله، واستشهدوا بوقائع ثابتة تتعلق بتفرق الأتباع في كل جيل بين الأبناء الذين إدعى كل منهم الإمامة لنفسه، مما يؤكد عدم معرفتهم بحكاية الوصية أو بوجود قائمة بأسماء الأئمة، ومن أشهر ما يستدل به في هذا الصدد هو ما قام به المأمون، ربما على سبيل المناورة، بعرض ولاية عهده على الإمام علي الرضا الذي قبلها وبايعه بالخلافة، وكان في هذا إقرار من الرضا بشرعية ولاية المأمون.

بالطبع يوجد عدد آخر من الخلافات سنعرض لبعضها لاحقا لكنها مما يمكن والحوار بشأنه لتجاوزه أو التعايش معه، أما مسألة إنكار الوصية ففيها هدم للمذهب الشيعي من جذوره، فلا نحن نستطيع قبولها، ولا هم مستغدون للتخلي عنها، والقضية لها مستويات متعددة من التعقيد ليس هذا موضع بسطها.

شارك المقال