منذ 1 شهور | 7891 مشاهدات
كان لعقيدة إنتظار الإمام الغائب، المهدي، الذي سيخرج أخر الزمان ليملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا وظلما، نتائج جوهرية على تشكيل البنية الإجتماعية والسياسية للطائفة الإثنى عشرية .. سنقتصر في هذا المقال على بيان المفاهيم الرئيسية في هذه العقيدة وظروف نشأتها، أما نتائجها، وعلى الأخص ما يتعلق منها بالأوضاع الحالية، فسنؤجلها لتعرض في سياقاتها.
رغم أن هذه العقيدة تبدو عندهم اليوم كما لو كانت من العقائد القطعية المستقرة التي إستفاضت بها النبوءات في روايات عن الرسول (ص) والأئمة الأحد عشر (رض) بكل تفاصيلها، فإنها في الواقع من العقائد التي لم تظهر وتتبلور إلا في القرن الرابع الهجري وما بعده، وتذكرنا بعقيدة المسيحيين في الإله المتجسد الذي صلب لتكفير الخطايا التي لم تتبلور وتستقر إلا في القرن الرابع الميلادي ومع ذلك يظنها عوام المسيحيون من القطعيات الراسخات.
لا ترد حكاية النص على إثنى عشر إماما بالإسم في أحاديث للرسول (ص) في كتابات منظري الإمامية قبل نهاية القرن 3ه، فقد كانوا حتى ذلك الوقت يتبنون الوراثة العمودية في نسل الحسين (رض) إلى يوم القيامة، وحتى هذه الفكرة لم تكن شائعة بين جماهير الشيعة، فبعد إستشهاد الحسين لم يجتمعوا على إبنه، فمنهم من تابع الحسن بن الحسن، ومنهم من قال بإمامة محمد بن الحنفية، وبعد علي بن الحسين توزع أتباعه بين إبنيه محمد وزيد، وبعد وفاة جعفر بن محمد تفرق ما بقي منهم بين ثلاثة من أبنائه، عبد الله الأفطح (الفطحية) وإسماعيل (الإسماعيلية) وموسى الكاظم السابع في السلسلة الإثنا عشرية .. فدراسة كتب منظري الشيعة قبل الحسن العسكري (الحادي عشر) لا تدعم بأي صورة فكرة أن الوراثة عمودية وأنها ستتوقف عند الثاني عشر.
بوفاة الحسن العسكري سنة 260ه عن 25 عاما دون إبن وقع أتباعه في أزمة خطيرة، فقد قام أخوه جعفر بتصفية تركته على أنه لا ولد له، وبالإضافة لذلك كان للعلويين سجل يقوم عليه نقيب لا يولد لهم مولود إلا سجل فيه ، ولم يكن فيه أي ذكر لمولد ولد للحسن العسكري، فكيف إذن ستستمر الإمامة بالوراثة العمودية في نسل الحسين؟ .. حينئذ إنقسم الأتباع إلى 14 فرقة، واحدة فقط هي التي أخرجت نفسها من المأزق بالزعم بأن للعسكري ولدا أخفاه في سرداب بداره في "سامراء" خوفا من بطش العباسيين، وسيخرج عندما تهدأ الأمور، هذه هي الغيبة الصغرى، عندما كان نواب الإمام يحملون للأتباع ما يزعمون أنه رسائله ويجمعون لحسابه أموال الخمس بإنتظار خروجه من السرداب .. مات النواب وإنقطعت الرسائل ولم يخرج الإمام، فتطورت الفكرة إلى ما عرف بالغيبة الكبرى التي ستطول إلى أن يأتي الله بالفرج ويخرج الإمام آخر الزمان، ولهم في ذلك آيات يتأولونها وأحاديث يروونها.
لسبب ما قرر السيد أحمد الخطيب، أحد طلاب الحوزة العلمية في قم، أكبر مراكز تخريج علماء الإثنا عشرية، أن يعد رسالته في موضوع لم يطرق من قبل، وهو تمحيص الأدلة التاريخية على ولادة الإمام الثاني عشر، فاتضح له تهافت كل الروايات، فمن حيث السند لا ترقى واحدة منها إلى مرتبة الصحيح، ومن حيث المتن تتعارض مع بعضها ومع الوقائع الثابتة تاريخيا، هذا إذا تجاوزنا عن التفاصيل الخرافية التي تعج بها.
لا نعرف إسم الوالدة، فقد قيل نرجس، أو مليكة، أو ريحانة، أو مريم، أو صقيل، والأم لم يكن بها أثر لحمل ولم تكن تعرف أنها ستلد الليلة، وطلب الحسن من عمته أن ترافقها، فجلست تقرأ القرآن فيجيبها الجنين من بطن أمه فيقرأ مثلما تقرأ، ويروي المسعودي أنه ولد من فخذ أمه، وقيل ولد ساجدا ونظيفا ومختونا ومكتوبا على ذراعه "جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا"، ونطق بالشهادتين فور مولده، وفي اليوم السابع تلا بعض آيات القرآن .. وفي رواية أنه يوم ولادته جاءت طيور وحلقت فوق رأسه، وقال الحسن لطير منها "إحمله واحفظه ورده إلينا كل أربعين يوما"، فتناوله وطار به، وقال الحسن أنه روح القدس، فلما رده بعد أربعين يوما كان يمشي كإبن سنتين، فتساءلت العمة بدهشة، فأجاب أن أولاد الأنبياء والأوصياء إذا كانوا أئمة ينشأون خلاف غيرهم، يتكلم في بطن أمه ويقرأ القرآن ويعبد ربه وتطيعه الملائكة (لاحظ أننا لا نجد عندهم أي رواية عن إمام آخر حدثت منه هذه الأعاجيب في طفولته) .. وتستمر الروايات على هذا النسق.
كم كان سنه عند وفاة أبيه؟ قيل مات أبوه قبل أن يولد، وقيل كان له سنتان وأربعة أشهر، وقيل ثمان سنوات، وقيل غيرها.
هذه روايات أوردها الصدوق والطوسي والمسعودي والخصيبي وغيرهم، منهم من أسقط شيئا، ومنهم من زاد .. وهي مجرد عينة لتعطيك فكرة عن طبيعة الروايات وما تضمنته من تفاصيل أسطورية .. المهم أن "الخطيب" قطع في النهاية بعد التمحيص بأن الواقعة ليس لها أصل .. لم يولد للحسن العسكري أي أبناء .. تكمن أهمية هذه الدراسة في أنها إقتصرت المراجع الشيعية .. ثم يضيف "الخطيب" دراسة عن الأوضاع السياسية للفترة التي توفي فيها الحسن العسكري ليدحض أي مبرر يدعوه للخوف على حياة إبنه المزعوم، فالعباسيون كانت تشغلهم صراعاتهم الداخلية، وعلاقتهم بالعلويين كانت طبيعية وتخلو من أي توتر، حتى أن الخليفة المتوكل العباسي هو الذي قام بالصلاة على الجنازة، وخرجت العاصمة عن بكرة أبيها تشيع الجثمان.
على أي حال – يقول "الخطيب" – لا يعول علماء الإثنا عشرية كثيرا على الأدلة التاريخية، ويفضلون عليها ما يعدونه دليلا عقليا قاطعا يثبت وجود الإمام الثاني عشر واستمرار حياته إلى أن يخرج، ويسير إستدلالهم كالتالي:
كان لهذه الفكرة أثر كبير على الحياة السياسية والإجتماعية للفرقة التي إقتنعت بها، فهم في حالة إنتظار لخروج الإمام من سردابه، وإلى أن يحدث يحرم كل عمل سياسي (كل راية غير راية الإمام هي راية طاغوت)، فحرموا محاولة إقامة دولة وعطلوا كل عمل له صلة بها، كجباية الزكاة والخمس وتولي القضاء وإقامة الحدود وصلاة الجمعة .. وغيرها، لكن بمرور الوقت، وتحت ضغط الواقع، ظهرت فكرة ولاية الفقهاء المجتهدين ليتولوا يعض المسائل الجزئية، أما مشكلة الحكم والسلطة فكان عليها أن تنتظر الخوميني.
أثار عدد من مثقفي الإثنا عشرية علامات إستفهام حول هذه العقيدة، وأغلبهم لا يرفضون التشيع، بل هم متمسكون بما يعدونه "مذهب آل البيت"، لكنهم يريدون تنقيته، أما ولاية الفقيه التي جاء بها الخوميني فيرفضونها تماما، وسنتعرض لهذه القضايا عندما نصل إليها.