منذ 3 ايام | 830 مشاهدات
عندما نشر الإخوان المسلمون بعد ثورة يناير المجيدة برنامجهم للنهضة، والذي صار بعد ذلك هو البرنامج الإنتخابي للرئيس محمد مرسي رحمه الله، فوجئت – حرفيا – بالتوجهات الإقتصادية لهذا البرنامج: توافق تام مع دعاوى حرية التجارة الدولية بدون إشارة للتبعية الإقتصادية وكيفية الخروج منها، وبدون أدوات لتوجيه الإستثمارات (الأجنبية على الأخص) طبقا للأولويات الوطنية، وتجاهل للإقتصاد التكافلي الذي يضمن الكفاية لكل المواطنين، وعدم ذكر مدى زمني لإلغاء المعاملات الربوية، وغيرها من المسائل التي أكد كبار مفكرينا على محوريتها في الإقتصاد الإسلامي (حسن البنا وسيد قطب ومالك بن نبي وعيسى عبده وباقر صدر وأحمد النجار وعبد الحميد الغزالي وعادل حسين ومحمد الغزالي ويوسف القرضاوي وغيرهم مع حفظ الألقاب)، وهذه ليست قضايا هامشية، فهي من أهم الواجبات الملقاة على عاتق الحكومة الإسلامية، وإعلان الإلتزام بها هو تأكيد نقدمه للجماهير لإقناعهم بأننا نطلب تسليمنا الحكم ليس لمجرد أننا أناس طيبين وأمناء ولكن لأن النظام الإسلامي سينتهج سياسات مختلفة تحقق مصالح الناس وتحسن ظروف معيشتهم بأفضل مما يمكن لأي نظام آخر، وأن تطبيق الشريعة لا يقتصر على إقامة الحدود والترويج للحية والحجاب والنقاب إلى آخر ما يروج الخصوم .. لكن ما حدث هو أن سياسات الإخوان بدت قريبة جدا من سياسات مجموعة جمال مبارك، وعندما حاولنا، وقتها، لفت إنتباه بعض المتخصصين في الإقتصاد من الإخوان ردوا بأن برنامجهم إنما يتبع توصيات علم الإقتصاد، الذي يصل في التحليل النهائي إلى أنه لو توافرت حرية حركة الأسعار والأسواق، وإقتصرت مهمة الدولة على حماية هذه الحركة، فإن النظام سيتجه تلقائيا لتحقيق أفضل تخصيص للموارد وأعلى كفاءة في توفير السلع والخدمات بالكميات والأسعار المثلى.
المشكلة هي أن كل مقررات الإقتصاد في جامعاتنا تقدم النظرية النيوكلاسيكية للإقتصاد الحر على أنها هي "علم الإقتصاد"، وتتجاهل أنها ليست إلا واحدة من نماذج فكرية عديدة، وأن الكثيرين من أكابر المفكرين الإقتصاديين لا يرون فيها عملا علميا من أصله، بل مجرد تبرير فلسفي منمق لسيطرة الرأسمالية، لكن كل الإخوان ذوي الخلفية الإقتصادية الذين ناقشناهم أصروا على أن نقد النيوكلاسيكية يرجع إلى يسارية النقاد، وألمح بعضهم إلى أن كاتب هذه السطور كان يساريا في صدر شبابه، وأن أستاذي الراحل عادل حسين كان عضوا نشطا في الحركة الشيوعية المصرية قبل أن ينتقل إلى مربع الفكر الإسلامي، لذلك ظنوا أننا نحمل نفورا وجدانيا من إقتصاد السوق الحرة، وعندما كنا نذكرهم بأفكار الشهيد سيد قطب رحمه الله، خاصة في كتابيه "العدالة الإجتماعية في الإسلام" و"معركة الإسلام والرأسمالية"، كانوا يردون بأن الأستاذ سيد كتبهما خلال مرحلته اليسارية، مع أننا لا نعرف أن سيد قطب كان يساريا في أي مرحلة، بل كان تلميذا للعقاد، واحد من ألد خصوم الشيوعية.
الواقع أن بعض من أهم نقاد النيوكلاسكية كانوا من داخل الفكر الليبرالي، لعل أشهرهم هو جون ماينارد كينز، الذي كان عمله تفجيرا للنيوكلاسيكية، فقد رفض مبدأ عدم تدخل الدولة وأكد على خطورة ترك القرارات المحددة للنمو والبطالة والتضخم والركود لرجال الأعمال، وقد تبنت آراءه كل الحكومات الغربية بعد الكساد العظيم (29-1933) ولحوالي نصف القرن (إلى ظهور التاتشرية والريجانية) .. إن إلتزام النيوكلاسيك بالتحليل المنطقي وإستخدام النماذج الرياضية المعقدة صاحبه إستخدام مقدمات خاطئة عاملوها كمسلمات، كإفتراض الرشادة والعقلانية الكاملتين في سلوك المنتجين والمستهلكين، وأن الأصل في الأسواق هو المنافسة الكاملة، بينما هي حالة لم يعد لها وجود، وأن دخل كل مشارك في العملية الإنتاجية يتحدد بناء على إنتاجيته الحدية، وأن أسعار عوامل الإنتاج مرنة تماما في إستجابتها للمتغيرات الإقتصادية، وأن الإدخار يتعادل دائما مع الإستثمار عند مستوى التوظيف الكامل، متجاهلين بذلك واحدة من أهم مشكلات الإقتصاد المعاصر وهي البطالة .. إذا بدأت من مقدمات خاطئة فالمنطق يحتم أن تصل إلى نتائج خاطئة .. يمكن للقارئ المهتم أن يجد عرضا أكثر تفصيلا لهذه القضية في كتابنا "بؤس الحل الليبرالي” على هذا الموقع.
لكن أهم عوامل رفض النيوكلاسيكية تأتينا من الواقع العملي، فبإستثناء أمريكا وفرنسا وإنجلترا في القرن التاسع عشر لم تحقق أي دولة نموها تحت رايات نيوكلاسيكية، وحتى هؤلاء لا ينسب تقدمهم لإلتزامهم بتوصياتها، فأمريكا كانت قد قهرت لتوها الهنود الحمر واستولت على خيرات القارة الغنية، أما إنجلترا وفرنسا فقد راكما ثرواتهما بالنهب المنظم لثروات الشعوب، لكن الرأسمالية الألمانية التي بدأت في الظهور في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، متأخرة عن فرنسا وإنجلترا بقرن كامل، رأت أن التسليم بالفكر الإقتصادي الإنجليزي، بالذات في ما يتعلق بحرية السوق، ونظرية التكاليف النسبية، وحرية التجارة الدولية، سيكون تسليما بتفوق إنجلترا وفرنسا، لذلك شجعت بديلا نظريا ألمانيا عرف بالمدرسة التاريخية، ولم يكن يساريا بالطبع.
لن نستشهد بالنموذج السوفيتي، ليس لأنه يساري، ولكن لأنه حقق نموه الفائق في الصناعة على حساب سحق المزارعين وإسترقاق العمال، ولأنه عجز عن الإستمرار، فإنهار النظام ثم الدولة كلها، لكن دعونا نستشهد بالنموذج الياباني الذي حقق معجزته الإقتصادية بأسلوب يتعارض مع أغلب توصيات النيوكلاسيكية، والنموذج الصيني الذي لا يعترف بالفكر الليبيرالي من أصله (عرضنا أهم عناصر إبتعاد هذين النموذجين عن النيوكلاسيكية في سلسلة "حتمية الحل الإسلامي").
كيف أجهز دونالد ترامب على ما تبقى من النيوكلاسيكية؟
بعد أن تبنت كل الحكومات الغربية توصيات "كينز" وتدخلت الدولة، زعم الأكاديميون النيوكلاسيكيون (وأيدتهم الرأسمالية التي تمول مراكزهم البحثية) أن الفكر الإقتصادي ينقسم إلى علمين، الإقتصاد الكلي (macro economics) الذي يدرس مجال عمل الحكومة، أي سلوك الإقتصاد القومي بمتغيراته الكلية، وآخر هو الإقتصاد الجزئي (micro economics) الذي يدرس سلوك الموسسات الإنتاجية والوحدات الإستهلاكية، وذلك كي تستمر معاملة النيوكلاسيكية كعلم محترم ومفيد، وفي التسعينات أخرجت لنا النيوكلاسيكية أفكار العولمة التي تقول أن إلغاء دور الدول القومية وإزالة الحدود أمام حركة رؤوس الأموال والبضائع وفتح كل الأسواق الوطنية على بعضها هو الوضع الأمثل للجميع (راجع الفصل الأخير من "بؤس الحل الليبرالي")، إلى أن جاء ترامب ليقول أن هذه الأفكار بالذات هي السبب في إنهيار الإقتصاد الأمريكي.
تحت راية العولمة نقلت الشركات العملاقة خطوط الإنتاج الصناعي إلى الدول الأكثر تخلفا سعيا وراء العمالة الأرخص الإعفاءات الضريبية وغيرها من المزايا، على أساس أن ذلك سيقدم لمواطني الدول المتقدمة سلع رخيصة ويتركهم ليقوموا بالأعمال الأهم والأعلى أجرا (في تكنولوجيا المعلومات وخدماتها وأعمال المصارف) .. أدت العولمة إلى زيادات كبيرة في أرباح الشركات العملاقة، لكن بعد ثلاث عقود إتضح أن الدول المتقدمة لم تحتكر الإبداع المعلوماتي، وأن هذا القطاع لم يستوعب أكثر من 4% من القوة العاملة الأمريكية، فزادت البطالة، وإنخفض مستوى المعيشة، وإرتفعت معدلات التضخم ودورات الركود وعجز الموازنة العامة وعجز الميزان التجاري .. إلخ، والأخطر هو خروج البنية التحتية الصناعية مع خطوط الإنتاج، مما يمثل تحديا كبيرا للصناعات الإستراتيجية (خصوصا صناعة السلاح التي تعتمد في الكثير من مدخلاتها على مخرجات صناعة السيارات) .. لم يجد ترامب بدا، وهو رجل أعمال ذكي ومحنك، من إنتهاج سياسة تعيد الحدود بين الأسواق وترفع الحواجز الجمركية وترغم الصناعات المهاجرة على العودة، أي التدخل للتأثير على القرارات الجزئية للمنتجين والمستهلكين وعدم الإكتفاء بإدارة الإقتصاد الكلي، المهم أنه لم يجد معارضة نظرية تذكر لهذه السياسة التي لا بديل عنها لمواجهة إنهيار الإقتصاد، ومنتقدية يعترضون على التعجل والرعونة في تطبيق السياسات التي يوافقون على ضرورتها، فما الذي بقي مما يدرسه الطلاب من ذلك العلم الذي لم يعد يقدر ولا حتى بالباذنجان؟
ألا يكفي هذا كي يعيد الإقتصاديون الإسلاميون التفكير في البرامج العملية للحركة الإسلامية؟ .. فلا أظن أنها ستستعيد ثقة الناس بنفس الإدعاء الغامض والمبهم بأن الإسلام هو الحل، نعم الإسلام هو الحل، ولكن كيف؟ بالتأكيد ليس بالسياسات النيوليبرالية التي فشلت في عقر دارها، ولله الأمر من قبل ومن بعد.