8- قرآننا وقرآنهم .. إدعاءات تحريف النص

منذ 1 شهور | 9884 مشاهدات

في جدالهم مع الشيعة يستغرق البعض في التعاطي مع كل ما يكتنف عبادتهم من بدع وعقائدهم من إنحراف، هذا قد يكون مفيدا إذا كنت تفكر في تحويل الشيعة إلى سنة، لكن المهمة الملحة اليوم هي بناء تحالف متماسك لمواجهة خصوم لأمة، لذلك يجب إعطاء الأولوية للخلافات التي قد تعرقل هذا التحالف .. علينا أن نفهمها أولا ثم نحاول الوصول إلى طريقة للتعايش معها، وليس بالضرورة حسمها، والتعايش يعني وضع ترتيبات للعمل معا في القضايا المشتركة مع إحتفاظ كل واحد برأية في المواضيع الخلافية، أما الحسم فلا يتحقق إلا يرجوع أحد الطرفين عن رأيه، أو الوصول لرأي توفيقي (أحيانا تلفيقي) يتبناه الطرفان.

لنبدأ بالمقولة الشائعة عن أن الشيعة يزعمون تحريف نص القرآن، الواقع أن علماءهم منقسمون في هذا الصدد، فريق يقول أن ما بين دفتي المصحف هو بالضبط ما أنزل على محمد (ص) دون أي نقص أو زيادة، وفريق يزعم وقوع التحريف مع إختلافهم حوله .. أي الفريقين هو الأغلبية؟ يذكر القرضاوي رحمه الله في بحثه عن التقريب بين المذاهب (كتبه في مرحلة كان يتكلم فيها بنبرة متفائلة فبل أن يفقد ثقته في جدية سعي الملالي للتقريب) أن الأغلبية تنكر التحريف، بينما يذكر الدكتور مصطفى الشكعة في كتابه "إسلام بلا مذاهب" أن جمهرة علماء الشيعة تقول بالتحريف، أما الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله فقد رأى أن مسائل التقريب كلها تعاني من مشكلة إيمان الشيعة بالتقية، فأنت لا تستطيع التأكد من أن ما تقرأه في كتب عالم ما هو بالضبط ما يؤمن به ويعلمه لطلابه.

أشنع الإفتراءات تجدها عند الكليني في كتابه "الكافي"، وله عندهم منزلة صحيح البخاري عندنا، فيورد حديثا يفيد أن مصاحفنا لا تحوي حرفا صحيحا، فيروي أن جعفر الصادق (رض) قال لأبي بصير: "وإن عندنا لمصحف فاطمة عليها السلام، قال: وما مصحف فاطمة؟ قال الإمام: مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد".

لكن غالبية الإدعاءات تتحدث عن إسقاط بعض الآيات، غلى الأخص في ما يتعلق بالوصية لعلي بالخلافة، كأن يدعي بعضهم أن سورة الشرح حذف منها آية "وجعلنا عليا صهرك" مع أن السورة مكية ولم يكن عليا قد أصهر بعد إلى رسول الله، وغير ذلك كثير مبثوث في كتبهم، ولقد ألف واحد من كبار علماء النجف في 1292 ه كتابا أسماه: "فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب"، ولما واجهه بعض علماء الشيعة بالنقد والإعتراض عاد فألف كتابا آخر سماه "رد بعض الشبهات عن فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب"، وكان من إفتراءته الزعم بسقوط سورة ألفها يقول فيها "يا أيها الذين آمنوا بالنبي والولي الذين بعثناهما يهديانكم إلى الصراط المستقيم".

لايمكن للعقل والضمير المسلم أن يتعامل مع الإدعاء بتحريف القرآن إلا بإعتباره صادر من خصوم عقائديين للإسلام، فهذه الإدعاءات لا تحمل فقط إتهاما للصحابة (رض) في جملتهم بالكذب والخيانة، بل هي تكذيب صريح لآية محكمة في كتاب الله: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" الحجر: 9. ‎

الحقيقة أن هناك العديد من كبار علمائهم يستنكرون وجود أي تحريف في القرآن، وقد نقل الشيخ رحمة الله الكيرواني الهندي في كتابه الشهير "إظهار الحق" نقولات عن عدد من أكابر علماء الإمامية يؤكدون فيها بأقوى العبارات إقرارهم بأن النص القرأني الموجود لدينا هو بالضبط كلام الله المنزل على محمد بن عبد الله (ص) دون أي زيادة أو نقصان (كان الشيخ يناظر قسا بروتستانتيا إحتج عليه بكلام الشيعة عن تحريف القرآن) .. ينبغي الإعتراف بوجود إتجاه علمي لا يستهان به بين علماء الشيعة القدامى والمحدثين يدافع عن سلامة نص القرآن، ويسوقون عددا من الحجج القوية، كالقول بأن الزعم بأي نقص أو تبديل في النص المقدس هو إتهام صريح للإمام علي كرم الله وجهه بالتفريط والخيانة، فقد كان أميرا للمؤمنين لخمس سنوات وفي إمكانه أن يكمل كل نقص ويصحح أي خطأ، ولما كان الثابت أنه لم يتعبد أو يعمل إلا بنص عثمان (رض) فلابد أنه هو النص المنزل، وبالإضافة لهذا النوع من الحجج العامة فإنهم يتتبعون كل زعم على حدة ويثبتون بطلانه .. المشكلة أن فكرة وجود التحريف منتشرة بين عوام الشيعة، يغذيها رغبتهم في التأكيد على أن القرآن لم يهمل قضية خطيرة كقضية الإمامة وتعيين الإمام التي يرونها من أركان الدين (الواقع أنه لم يهملها، بل أعطاها حجمها الحقيقي كمسألة من مسائل الفروع، أهمل ذكر إسم خليفة رسول الله لأن الله لم يعين خليفة وترك الأمر شورى بين المسلمين).

أحسب أنه لو تغيرت النخبة الحالية وجاءت نخبة راغبة فعلا في بناء الجسور وإقامة التحالف مع السنة فسيمكنهم إعادة تعليم العوام، ليس فقط لأن التأكيد على حفظ النص القرآني موجود وبقوة في التراث الشيعي قال به علماء لا يقلون في القوة والمكانة عن القائلين بالتحريف، ولكن أيضا لعدم وجود أي نص منافس، فالمصحف الموجود اليوم بين أيدي الشيعة في كل أنحاء العالم هو نفسه الموجود عند أهل السنة، وما يطبع منه في إيران هو نفسه ما يطبع في مصر وفي كل الدول الإسلامية، وهو نفسه الذي يفسره مفسرو الشيعة، ولا يوجد غيره في كتبهم للتفسير، وهو الذي يتحدثون عن بلاغته وإعجازه، ويستدلون به في إثبات عقائدهم ويحتجون به في إستنباط الأحكام الفقهية، ويعلمونه لأولادهم في المدارس ويذيعونه في الإذاعة والتليفزيون.

أظن أنه من الممكن التغلب على هذه المشكلة وإزالة أكذوبة التحريف من عقول جماهيره الشيعة أو على الأقل تهميشها بحيث تفقد تأثيرها، لكن المشكلة الأعوص هي تلك المتعلقة بالتأويل الفاسد لبعض الايات، وسنؤجلها للمقال القادم بإذن الله.

  

شارك المقال