منذ 1 شهور | 4475 مشاهدات
تكتنف إقامة التحالف السني الشيعي الكثير من المصاعب، لكن العائد يستحق، بعض هذه المصاعب نتج عن أوهام راجت بين العوام، بل وبعض المثقفين، من الطرفين، وهذه لا يتطلب تصحيحها إلا رغبة مخلصة من القيادات، لكن أغلبها يرجع إلى صخب غير مسئول يثيره بعض المنتسبين للعلم من السنة ومن الشيعة، وفي هذا المقال نتكلم عن ما يخصنا من هذا الصخب، أي الإدعاء السني بإستحالة التوافق مع الشيعة الإمامية بسبب خيانتهم وكفرهم .. نحن لا ننكر أن لدى الشيعة الكثير من الأخطاء والإنحرافات، لكن ما يهمنا هو توضيح أنها لا تستدعي إخراجهم من الملة وإستبعادهم من الأمة، وإنما ينسب المنحرفون منهم للبدعة، ولا يمنع ذلك من ضمهم لصفوف المجاهدين، مع التنبيه على أن التعايش والتعاون لبناء النهضة يتعلق بالمعاملات ولا صلة له بالعقائد، وليس لعلماء السنة ملاحظات تذكر على هذه الأبواب في فقه الشيعة الإثنا عشرية .. ولنراجع بإختصار أهم النقاط التي يثيرها المعترضون من الجانب السني.
أولا: يردد الكثيرون من السنة أن الشيعة كانوا يقفون دائما في صف أعداء الأمة .. هذا زعم لا يعتمد على وقائع التاريخ .. لا أعرف إن كان سببه الصراع بين الصفويين الشيعة والعثمانيين السنة، أم ما روجت له الدعاية السعودية في أعقاب الثورة الإيرانية، فقد وصل الأمر إلى الإدعاء بأن معركة "شقحب" التي إنضم فيها كثير من الشيعة إلى التتار كانت بين المماليك المسلمين والتتار الكفار، بينما الحقيقة أن التتار كانوا قد أسلموا على مذهب الشيعة الإمامية، فمن الطبيعي إذن أن ينضم الشيعة لمعسكرهم دون أن يروا في ذلك خيانة للأمة، لذلك وصف إبن تيمية، الذي كان في جيش المماليك، عدوهم "بالخوارج"، ولا يوجد من أهل السنة من قال بتكفير الخوارج، ومع ذلك سيقول لك الوهابية أن إبن تيمية كان في جيش المسلمين والشيعة في جيش الكفار.. صحيح أنه على مر التاريخ كان هناك خونة من الشيعة دلو الأعداء على عورات المسلمين، لكن وجد مثلهم من السنة، فالخيانة لم ترتبط بالفرق أو المذاهب، وصحيح أن بعض الدول الشيعية إنضمت إلى الأعداء في أكثر من مناسبة، لكن هناك أيضا دول سنية قامت بنفس الفعلة الشنعاء، ومن الشيعة من إنخرط في مقاومة الزحف الصليبي منذ بدايته، ثم تحالف مع صلاح الدين (ومن خانوه كانوا من الطرفين) .. تاريخنا لا يقدم ما يربط بين التشيع والخيانة.
لعل هذا الخطأ في إستقراء التاريخ هو الذي دعا الكثيرين إلى تصديق حكاية أن مظاهر العداء بين أمريكا وإيران ليست إلا تمثيلية لخداعنا نحن السنة، أحسب أن وقائع حرب الإثني عشر يوما الأخيرة قد برهنت على زيف هذه الحكاية.
ثانيا: هم غاضبون من الشيعة لأنهم يقولون بتحريف القرآن، وإعتبروا هذا كافيا لتكفيرهم بإعتباره إنكارا لما هو معلوم من الدين بالضرورة .. لقد أوضحنا أن علماء الإمامية منقسمون حول هذه القضية (راجع المقالين السابقين)، وفي كل الأحوال لن نجد لها تأثيرا على العمل المشترك، فليس لدى الشيعة اليوم إلا المصحف الذي نؤمن به، يتعبدون به وحده ويستنبطون منه الأحكام .. نحن أيضا يغضبنا أن يوجد بينهم من يردد هذه الفرية، لكنا لا نجد في ذلك مبررا لرفض التحالف في مواجهه العدو المشترك.
ثالثا: يقولون أن الشيعة ينكرون السنة كمصدر ثان للتشريع، وهذا إتهام سخيف ينتج عن خطأ في الفهم أو عن جهل بالموقف الحقيقي للشيعة، فهم لا ينكرون حجية السنة بأي حال، إنهم فقط لا يثقون بصحة منقولات أهل السنة عن رسول الله (ص)، لذلك لا يأخذون الحديث إلا عن طريق رواتهم فقط، فخلافهم معنا يقتصر على عدم الإعتراف بموثوقية الرواة الذين وثقهم علماء الحديث ويرفضون الإعتراف برواياتهم ولا يرونها من السنة، وهذا قد يسمح لك بإدخالهم في أصحاب البدع، لكنه لا يسمح لك بإخراجهم من الملة.
رابعا: يأخذون على الشيعة أنهم يدعون العصمة لأئمتهم ويعدون أقوالهم حجة في الدين، وينزلونهم بذلك منزلة المشرعين، بينما نؤمن ألا عصمة بعد رسول الله (ص)، وألا مشرع في الإسلام غيره .. الشيعة على خطأ بالتأكيد في هذه المسألة، لكننا لم نر إتفاقا بين علماء السنة على إعتبارها سببا لتكفيرهم، والمؤكد أنها لا تبرر إقامة حاجز بيننا يحول دون إقامة الجبهة الإسلامية الموحدة، فإدعاء عصمة أئمة آل البيت (رض) ليس له اليوم أي نتيجة عملية، ذلك أن ما ثبت نقله عنهم هو عندنا إما أحاديث يروونها عن جدهم (ص) أو هو إجتهادات تقف في الأخذ بها في نفس مستوى آراء المجتهدين من التابعين وتابعيهم وأئمة المذاهب الأربعة، والفقه الجعفري، الذي إستنبط من القرآن الذي نستنبط منه، ومن الأحاديث المروية عن علماء آل البيت الذين يوثقهم رجال الحديث عندنا، هو مذهب معتبر عند علمائنا، لا يبتعد عن مذاهب أهل السنة ولا يختلف عنها إلا بقدر ما تختلف هي عن بعضها، صحيح أن هناك مسائل إنفرد بها الفقه الجعفري، كمسألة زواج المتعة مثلا، لكنك في هذه المسألة ستجد أن بعض علماء السنة ذهبوا مذهبهم، عدت آرائهم شاذة ولم يؤخذ بها لكن أحدا لم يقل بتكفيرهم.
خامسا: يقولون أن الشيعة لا تفهم توحيد الألوهية، فهم يعتقدون أن لأئمتهم ولاية تكوينية، يدعونهم عند النوازل ويستغيثون بهم وينذرون لهم .. إلخ، وهذا كله يعدونه شركا ينافي حقيقة التوحيد .. لا داعي لأن ننشغل في سياقنا هذا بالحكم على هذه المظاهر، على أهمية أن ينشغل به المتخصصون في سياق البحث العلمي، فهي في الواقع بلوى عمت كل طوائف المسلمين ولم تقتصر على الشيعة وحدهم، ومن يرى ما يفعله كثيرون من عوام السنة عند قبور مشاهير الأولياء، كالجيلاني والبدوي والرفاعي والدسوقي وغيرهم، سيجد نفس المظاهر، الفارق هو أن أغلب علماء السنة ينكرونها بينما لا نجد ذلك واضحا عند علماء الشيعة، بل من أكابرهم من يشجع عليها .. شخصيا أقبل الموقف الذاهب إلى أننا كما لم نخرج التصوف البدعي من الملة لا ينبغي أن نخرج الإمامية منها.
أغلب ما سبق هو إنحرافات مرفوضة على المستوى الإعتقادي، لكنها لا تصلح لرفض إقامة جبهة إسلامية عريضة في مواجهة الغزوة الغربية المعاصرة، بل إنها لا تتعارض مع إقامة كيان سياسي جامع للمسلمين (ولهذا شروطه الموضوعية التي يجب تحقيقها في المجتمعات السنية المغرقة في أوحال التبعية والإستبداد، لكن علينا أن نقر الهدف من الآن) وسنناقش هذه القضية في نهاية السلسلة بإذن الله (في الواقع كل ماقلناه وسنقوله في هذه السلسلة إنما هو مقدمات لعرض قضية وحدة العالم الإسلامي).
بقيت مسألة يتعذر على العالم السني أن يتعايش معها، وعلى الجانب الشيعي أن يتعامل فيها بجدية إذا كان يسعى بالفعل للتعاون السني الشيعي، وهي مسألة سب الصحابة رضوان الله عليهم .. هذا موضوع المقال القادم بإذن الله.