منذ 1 اسابيع | 2120 مشاهدات
عندما تسمع رد المقاومة على خطة ترامب فإن إنطباعك الأول هو أنه ليس إعلانا بالقبول، فالرد قد رفض ضمنيا أهم وأخطر ما فيها، لكنه حاول أن يتجنب التصريح بالرفض حتى لا تتهم المقاومة بأن تعنتها هوالسبب في إستمرار معاناة أهل غزة، لذلك تصورت لأول وهلة أن ترامب سيرفض هذا الرد ويصر على قبول خطته كاملة أو رفضها كاملة .. هذا ما أعلنه منذ البداية وأصر على أن تنفذ خطته فورا ودفعة واحدة وليس على مراحل، وإلا فالويل والثبور وعظائم الأمور.. رد المقاومة لم يكن أبدا قبولا، فلماذا أعلن ترامب أن المقاومة قد قبلت خطته؟
بعد المقدمة والمجاملات البروتوكولية نص الرد على أنه "بما يحقق وقف الحرب والإنسحاب الكامل من القطاع تعلن موافقتها على الإفراج عن جميع أسرى الإحتلال سواء كانوا أحياء أو جثامين، وفق صيغة التبادل الواردة في مقترح الرئيس ترامب .." هذا هو الجزء الوحيد الذي قبلوه، أما باقي البنود فقد رفضتها المقاومة رفضا ضمنيا، رغم لباقة العبارة وذكاء الصياغة، ففيما يتعلق بالهيئة الدولية الترامبية التوني بليرية وكل مهامها وملحقاتها قالت المقاومة أنها توافق على تسليم إدارة القطاع إلى هيئة فلسطينية من المستقلين التكنوقراط يتم تشكيلها على أساس التوافق الوطني الفلسطيني، لا هيئة دولية ولا ترامب ولا توني بلير ولا يحزنون، أما سائر البنود فقد تجاوزها البيان في عبارات مجملة، فبشأن القضايا الأخرى الواردة في المقترح والمتصلة بمستقبل غزة وحقوق الشعب الفلسطيني شدد البيان على أن هذه الملفات مرتبطة بموقف وطني فلسطيني جامع وبالإستناد إلى القوانين والقرارات الدولية ذات الصلة .. وبالطبع فإن خطة ترامب تتجاهل تماما هذه القوانين والقرارات الدولية، بل أنها لم تعترف بالفلسطينين كشعب صاحب أرض وهوية، ونظرت إليه فقط كأفراد لهم حاجات معيشية سيوفرها لهم مشروع الريفيرا، أما ميثاق الأمم المتحدة الذي تريد المقاومة أن تستند إليه فيتكلم عن حق الشعوب المحتلة في مقاومة الإحتلال بكل الطرق (يعني لا نزع للسلاح إلا بعد تحرير الأرض) والقرارات ذات الصلة تنص على إنسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة عام 1967 (الضفة أيضا وليس القطاع وحده) وعلى حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره (يعني لا هيئة دولية ولا قوات شرطة عربية إسلامية ولا شروط للإعمار .. إلخ) .. الشعب الفلسطيني وحده هو الذي يحدد مستقبله ويقرر من يحكمه والطريقة التي يحكم بها .. لابد أن تتوقع أن ترامب سيعلن أن المقاومة تلف وتدور وتتلاعب، وأنه سينفذ وعيده ويفتح أبواب الجحيم على غزة ما لم تنصاع المقاومة إنصياعا كاملا، وقد سبق أن قالها بالفعل: إذا لم تقبل المقاومة خطته فسيطلق يد نتنياهو ليفعل بها ما يشاء (كأنه كان يقيده).
المفاجأة أن ترامب لم يكتف بعدم رفض رد المقاومة، بل نشر نصه الإنجليزي على موقعه الشخصي بما فيه من عبارات قدح وإدانة لإسرائيل (كالحديث عن الإبادة الجماعية ومقاومة الإحتلال .. إلخ)، ثم واصل بعدها الثناء على المقاومة وقادتها .. لماذا يفعل ذلك؟ .. من المستبعد أن يكون السبب راجعا إلى عدم تبصر الإدارة الأمريكية وضعف إدراكها للمضمون الحقيقي للرد.
إستنتج أغلب المعلقين أن هدف الخطة هو إستدراج المقاومة لتعيد الأسرى كي يتخلص نتنياهو من الضغط الذي يمارسه عليه أهالي الأسرى، وبعدها سيعلن ترامب أن خطته يجب أن تستكمل فورا فتسلم المقاومة سلاحها ويغادر قادتها القطاع ويقبل أهلها بالإدارة الدولية وإلا فإن إسرائيل ستواصل الحرب .. لقد رأى هؤلاء المعلقين أن المقاومة قد وقعت في الفخ، أما نحن فنرى الأمر على صورة أخرى، فالفخ لم يكتمل بعد، وما زالت لدينا الفرصة لنعدل الوضع.
إن إسرائيل لم تأخذ أسراها مجانا، فقد تعهدت بعدم العودة للقتال وبأن الخلافات لن تحل إلا من خلال المفاوضات وأن المساعدات الغذائية ستدخل بمعدلات كافية وإنسحبت بالفعل من أكثر من نصف الأراضي التي إحتلتها وتعهدت بالإنسحاب أكثر من ذلك، صحيح أنها يمكن أن تلحس تعهداتها بسهولة ولأسباب واهية، لكن إستعادة الأرض التي إنسحبت منها سيكلفها ثمنا باهظا، سيقولون لك نعم لكن نتنياهو أخذ أسراه بهذا الثمن ثم سيواصل الحرب .. ليس الأمر كذلك .. قد يكون إستعادة الأسرى مهما لذويهم، لكنه لم يكن كذلك بالنسبة لنتنياهو وزمرته اليمينية المتطرفة، فتصريحاتهم ومواقفهم تقول أنهم على إستعداد للتضحية بالأسرى وبأضعاف أضعاف أعدادهم من الجنود في سبيل تحقيق الهدف الأهم .. إسرائيل الكبرى .. سيقولون لك نعم لكنه ضاق بضغط الأهالي .. غير مقنع .. فقد تحمل هذا الضغط لمدة عامين كاملين ولا ضير عليه إن تحمله لعامين آخرين، خصوصا أنه بعد أن يستعيد أسراه سيفقد المبرر الذي كان يسوقه لتغطية العدوان، أما بالنسبة لأمريكا فإستمرار 20 جندي إسرائيلي في الأسر لا يمثل أي ضرر على مصالحها في المنطقة، فلماذا قبل نتنياهو تأجيل تحقيق هدفه وزيادة الثمن الذي سيدفعه (إعادة إحتلال الأراضي التي كان قد إحتلها بالفعل) وإعطاء المقاومة فرصة لإلتقاط الأنفاس وإعادة تنظيم الصفوف، وبعد ذلك وقبله فإن عودة الحرب بعد الإفراج عن الأسرى ستزيد من حجم الغضب العالمي والكراهية لإسرائيل والدعم لغزة .. لماذا إذن ضغط ترامب وإستجاب نتنياهو؟ .. الجواب: لأنهم في حاجة لهدنة طويلة أولا، ولأنهم ربما يتمكنوا من تحقيق جزء كبير من الهدف بأيدي عربية إسلامية.
الأرجح هو أن ترامب يريد حماية إسرائيل من تهور قادتها الذي أدى إلى تنامي الرفض الشعبي العالمي للإحتلال لدرجة أدت إلى إستجابة بعض الحكومات لشعوبها والذي يتحول بالتدريج إلى فعل إيجابي لدعم المقاومة والعمل على تحرير فلسطين، هذا الضغط العالمي قد يضطر إسرائيل لإنسحاب مهين من الضفة والقطاع عندما تجد أمريكا أن تكلفة دعمها لإسرائيل أصبحت غير مبررة .. الهدف من الخطة إذن هو تحقيق تهدئة مؤقتة وتأجيل التهجير ريثما يتمكن العدو من تنفيذ حملة علاقات عامة واسعة النطاق تعييد تبييض صورة إسرائيل وتقدم سردية جديدة تسمح بتصفية القضية الفلسطينية بعيدا عن مؤيديها حول العالم .. هذا هو الفخ الذي يريدون إيقاعنا فيه.
ما هي السردية الإسرائيلية الجديدة وما هي الوسائل التي سيستخدمها العدو لغرسها في عقول شعوب العالم؟ وما هو المتاح أمام المقاومة للحفاظ على زخم التأييد العالمي وتصعيده كي نجهض محاولات العدو ونستمر في جهاد التحرير فيتحول التوقف المؤقت إلى فرصة لإستجماع القوى ومواصلة النضال؟ .. ولله الأمر من قبل ومن بعد.